كان يوم 21 رمضان الموافق 12-9-2009م هو موعد عرض الملحمة الغنائية حكاوي الجبل الأخضر.. وقد سبق لهذه الملحمة أن قُدّمت في يوم 10-8-2008م بمناسبة احتفال نادي الأخضر الرياضي بالعيد الخمسين لتأسيسه , وكانت من إنتاج نادي الأخضر .
كتب كلمات هذه الملحمة الشاعر الغنائي عبد السلام الحجازي وقد استعان في سبيل إنجاز هذه الملحمة بمجرودة للشاعر الشعبي رويعي الفاخري الذي كتبها لهذا الغرض فأبدع وأحسَنَ كعادته دائماً, كما استعان بقصيدة(الوصية)للشاعر الغنائي سالم الكواش. بالإضافة إلى بعض المختارات من الموروث الشعبي.
وقد قام الفنان سعد الفيتوري بتلحين كلمات الملحمة وأداها صحبة نخبة من الأصوات الليبية المتميّزة. كما قام الفنان ياسر نجم بالتوزيع الموسيقي للملحمة. أما الإخراج المسرحي الاستعراضي فقد كان من مهمة المخرج المسرحي عزالدين المهدي ومصمم الرقصات الفنان محمد سعد.
كانت الملحمة قد قسّمت إلى عدة لوحات استعراضية,فبدأت باستعراض حياة النجوع في الجبل الأخضر وكيف كانت معيشة أهلها تقوم على التعاون والتكافل في كافة شؤونهم الحياتية من حرث وحصاد وجز الصوف وغيرها. أما اللوحة الثانية فكان الجبل الأخضر يتحدّث فيها عن ذكرياته والحُقب التاريخية التي مرّ بها وعايشها منذ قدوم الإغريق وحتى قيام الثورة. أما اللوحات الأخرى فقد استعرضت مدينة البيضاء ونادي الأخضر الرياضي.
استغرق العرض حوالي الساعة بـ(الداداشو) في قاعة مسرح هواة الفن,وقد حضرها لفيف من الفنانين بمدينة البيضاء. وبعد انتهاء العرض عُقِدَت ندوة على أضواء الشموع بسبب انقطاع التيار الكهربائي.
تولى الفنان المسرحي عبد الرحمن عباس إدارة هذه الندوة وبدأ على الفور باستطلاع آراء وانطباعات الحضور,فجاءت هذه الانطباعات والآراء كما يلي:
* - الناقد سعد الحمري:العمل رائع جدّاً-ولكن هناك خلط في مفهوم الأوبريت واللوحات الغنائية التسجيلية,وما شاهدناه الليلة هو لوحات استعراضية وليست أوبريتاً غنائياً.
* - الأديب الصديق بودوارة:أشكر أسرة العمل – ولكن لديّ ملاحظة وهي أن الإغريق ليسوا على عكس الرومان هم أيضاً مستعمرون,وقد وقعت بينهم وبين الليبيين معارك شرسة.
* - الفنان سعد الدلال:أولاً أودّ إبداء إعجابي بكلمات الملحمة كان الشعر غاية في الروعة والإمتاع,والموسيقى كذلك.وبالنسبة للإخراج فالرقص كان هو هو حتى نهاية العرض – في الإجمال كان الجهد كبير والملحمة ضخمة- ثانياً أؤكد على كلام بودوارة- هناك خلط في التسلسل التاريخي- لماذا لم يرد في النصّ ذكر لفرسان القديس يوحناّ؟.
*- الفنان المهدي الهيلع:هناك علاقة قديمة بين عزالدين المهدي والاستعراض- اللون الأحمر كان طاغياً على العرض.
*- المخرج شرح البال عبد الهادي: لم يكن هناك مبرراً لوجود الرواة – كان من المفروض استخدام الداداشو-أثناء العرض المباشر في الاحتفالية- لإظهار مشاهد أخرى غير موجودة على الركح- هناك نقص في الديكور– الإضاءة لم تساعد العمل.
* - الإعلامي عبد السلام الجياش:العمل رائع جدّاً- استطاع الشاعر أن يوظف موروثنا توظيفاً جيداً- واستطاع الملحن سعد الفيتوري أن يطوّر غناوة العلم والكشك بشكل جميل وممتع.
وبعد الانتهاء من استطلاع الانطباعات أحال عبد الرحمن عباس الحديث إلى كاتب وملحن ومخرج الملحمة,فجاءت ردودهم على النحو التالي:
*- الشاعر عبد السلام الحجازي:شكراً لحضوركم وأرائكم- أودّ التنويه أولاً إلى أنّي قد كُلفتُ بكتابة هذه الملحمة في يوم 15-6-2008م.على أن يكون العرض متكاملاً بموسيقاه وتمثيله في شهر 8 من نفس العام,ولا يخفى أن هذا الزمن قصير جدّاً مقارنة بموضوع الملحمة,ولكن العزيمة والحماس وحب الجبل الأخضر ومدينة البيضاء وناديها كانت وراء هذا الإنجاز في هذا الزمن القياسي .أما بالنسبة لانطباعات بعض الحضور فأولاً لستُ أنا من سماه أوبريتاً فقد كتبته بعنوان ملحمة حكاوي الجبل- ذكر بودوارة أن الإغريق مستعمرين وأنا أقول أنهم لم يكونوا كذلك في بداية أمرهم فعندما نزلوا في خليج البمبا أخذهم الأهالي الليبيون إلى منطقة المنصورة حيث الخضرة الدائمة والمطر الدائم ولم يكن الأهالي ليفعلوا ذلك لولا شعورهم بالودّ تجاه هؤلاء الإغريقيين,وأما الحروب التي وقعت بين الليبيين والإغريق فقد كانت في مرحلة متقدمة نوعاً بسبب استشعار الإغريق بقوتهم فبدأوا باضطهاد الليبيين- أما ما ذكره الفنان سعد الدلال عن الخلط في التسلسل التاريخي وتجاهل بعض التفاصيل مثل فرسان القديس يوحنا وغيرها,فأقول: أولاً أنا لستُ مُحاضِراً يعطي درساً في التاريخ فيعنى بتفاصيله الدقيقة,إنما كانت غايتي أن أذكر على لسان الجبل الأخضر الحقب التاريخية التي مرّ بها هذا الجبل وما عاناه أهله من هؤلاء المستعمرين عبر التاريخي وما ضربوه من أمثلة جبارة في المقاومة والاستبسال دون أرضهم,ولذلك فقد اكتفيتُ بتوضيح الخطوط العريضة لهذا التاريخ. هذا من جهة,ومن جهة أخرى لم يكن هناك أي خلط في التسلسل التاريخي فالنصّ يبدأ بعهد الإغريق,ثم العهد الروماني,ثم الفتح الإسلامي,ثم العهد التركي العثماني,ثم الغزو الإيطالي,ثم مرحلة الجهاد وقيام الثورة,فأين الخلط التاريخي في هذا؟- وأخيراً لم يثبت لديّ أن فرسان القديس يوحنا وطئوا الجبل الأخضر ولهذا لم يرد ذكرهم في هذا النص الذي يتحدث عن السيرة الذاتية لهذا الجبل.
*- سعد الفيتوري: ليس لديّ ما أضيفه – شكراً لحضوركم وانطباعاتكم الجميلة تجاه الموسيقى.
*- المخرج عز الدين المهدي:الأوبريت يجمع مجموعة عناصر- المسرح أبو الفنون- هذا أوبريت بمعنى الكلمة لأنه جمع كافة العناصر الدرامية,فالراوي يتحول إلى مطربٍ والممثلون كذلك- صفقوا كثيراً للحجازي على هذا العمل العظيم.
قراءة مُختصرة في ملحمة حكاوي الجبل للشاعر ( علي الفسيّ) من مدينة بنغازي بعنوان : غنائية رائعة من رحم التراث كتبها في 5/8/2008.
التحضير للاحتفال بخمسينية نادي الأخضر يسير على قدم وساق،على عدة مسارات رياضية،ثقافية،فنية، إعلامية... والجديد هنا هو إقدام الشباب القائمين على هذه الاحتفالية على خوض تجربة جديدة و رائعة وهي ((أوبريت )) ملحمي .
قادتني الصدفة لحضور إحدى تدريبات هذا العمل الإبداعي فأدهشتني اللوحات التي تمزج أصالة الكلمة بتناغم تاريخي بديع وجمال للحن وحرفية الإخراج وتقنيات الحركة لتجسد حكاية من زمان ومكان ، ........
لوحات تصور الماضي بقضِّـهِ وقضيضهِ ، و بتراتُبية متفردة بـِدْأً من هجرات الإغريق وغزوات الرومان ومن ثم الأتراك وصولاً إلى الغزو الإيطالي البغيض .
النص الشعري .. يبدأ بمجرودة للشاعر الشعبي المجدد المتجدد الرويعي الفاخري هي نقوش زمنية وصور شعرية متلألأة مؤثرة. ثم رشقات من الفخامة الشعرية المعهودة لدى عبدالسلام الحجازي يصب فيها فيضاً من مخزونه الثقافي والتراثي غير متجاهل لأي سمة تراثية من (الجلامة ، والحرث ،والحصاد )و غيرها . ويطرح سالم الكواش لوحة حوارية قمة في التأثير تتناغم لتجسد صعود الإنسانية من الهاوية تستحضر روح الماضي في نفوس الصغار بنكهة جديدة مطعَّمَـة بكل ما هو أصيل،و موشـَّحة بقالب أنيق من حس وذوق.
الموسيقى .. بأنامل سعد الفيتوري الذهبية فهي باهظة التكوين تتلاقح فيها سمات التنوير الإبداعي في أروقة الذوق الرفيع لتطير بنا بلونها الشفيف إلى السماء .
أضفت عليها عبقرية ياسر نجم لمحةً من لمحات الدهشة،مبشرةً بلون جديد و أسلوب جديد.
كل ما أسلفت من مشيج .. هو بين يدي عز الدين المهدي يشكله بعبقرية و يحيله استعراضاً إيحائياً تكتمل من خلاله الفكرة و النص في لوحات راقصة بأسلوب الفن الإيمائي الحركي وهي مزيج من الحكايا الشعبية ورقصات تلهج بحب الوطن و لوحات تغازل الحاضر وتستشرف المستقبل برؤية العارف المدرك لطبيعة وهموم الوطن ... اتسقت في الأداء جمالاً موحداً.
عز الدين وصل إلي صيغة جمعت جاذبية الطرح وجماليات الاحتفاظ برؤى ودلالات الكاتب يساعده في ذلك لفيف من الشباب المثقل بالأعباء رغم ذلك يجدون في تنفيذ هذا العمل تحدياً لكل عائق .
أما الأداء .. فحدث ولا حرج فأنت ترى حِـرفية بديعة يخيل إليك أنها ذات خبرة ، حركات تموسق التأمل ، والمثير هنا أن أغلب المؤدين من راقصين و ممثلين،أطفال هي إطلالتهم الأولى على المسرح .
والأصوات .. تلج حلقة الجمال لتمتطي سلماً من سلالم الفخامة و تسجل لها اسماً جديداً، فهي دون أن تشارك في السوبر ستار ،سوبر ستار،رافقت مختلف اللوحات، ساحرة متنوعة بأسلوب تفاعلي ,اكتشافات جديدة ،لذا فهي وسام على صدر القائمين على هذا العمل .هذه المسرحية الغنائية كما أحب أن أسميها ، جاءت غاية في الروعة في فكرتها وشعريتها وحواريتها وموسيقاها وأدائها وإخراجها .
أخيراً .. تحية لمن يعملون في الظل وراء الكواليس و يدعمون هذا العمل بالمجهود الذاتي من شباب مدينة البيضاء المحبين لمدينتهم وناديهم وأجدادهم اللذين ورَّثوهم المروءة والكرم والتفاني في حب الأوطان .