خرج ولم يعد ..... سالمين خليفة .

خرج ولم يعد
لم أذكر بأنني وصلت إلى المدرسة يوماً دون أن أجد بأنه قد سبقني أنا وجميع المدرسين والمدرسات ، ما أنفك أراه كل صباح جالساً ووجهه الرائع الملامح تعلوه أعذب ابتسامة ، تحاول كل معلمة أن تسبق زميلاتها لكي تستأثر بالجلوس إلى جواره والتقرب إليه بكافة السبل فيجعله هذا الأمر يكاد أن يحلق فرحا كعصفور .. وأنا نفسي لن أنكر يوما بأن هومه "إبراهيم" هو بمثابة قطعة سكر أضيفها كل صباح إلى فنجان الروتين المر منذ أول يوم تعانقت فيه نظراتنا .. بشعره الأشقر كخيوط الشمس ووجهه الصافي كقشطه "بوك" ، كم أعشق ابتسامته كلما عض على لسانه خجلاً حين يلقيها في وجه الجميع كأجمل تحية صباحية.
لكن في ذلك اليوم حين ذهبت مسرعة لكي أبارك نهاري برؤية محياه ، كان هومه على غير عادته .. لقد بدا شاحباً وحزيناً .. وتعلو وجهه نظرة شخص عمره سبعون عاماً.. وحين حاولت أن أشاكسه أشاح بوجهه بعيدا عني في غضب.
يا للصدمة .. ما بك يا هومه ؟
قاطعت أحدى المعلمات تساؤلاتي بسؤال كانت فيه الإجابة عن كل ما ارتسامات الحزن في وجه إبراهيم في هذا اليوم :
هل حقاً سيتم اعتماد الملاك الوظيفي للتعليم في هذا الأسبوع !!!؟
أجل ربما أدركت السبب الآن وراء حزن "هومه" فهو بالتأكيد لن يتم تسكينه في الملاك الوظيفي بالرغم من كونه مواطن ليبي ومن الدرجة الأولى وبالرغم من التزامه بالحضور اليومي من السابعة والنصف صباحا وحتى نهاية الدوام وتعرضه لكل الضغوطات النفسية والجسدية دون أن تنبس شفتيه بأي كلمة احتجاج أو اعتراض .
لم يقل هومه يوماً ..
ما ذنبي حين تقوم أمي بإيقاظي في ساعات الفجر الأولى لكي تقوم بتجهيزي واصطحابي معها إلى المدرسة في أسوأ الأحوال الجوية وأقساها؟
أين حقي في أن أنعم بالنوم في مهدي الدافئ مثل أي طفل في العالم ؟
بل ما ذنبي حين لا تملك أمي الحق في أن تطالب بغرفة لحضانة أطفال المعلمات في المدارس ، فتضطر إلى تركي وحيد في غرفة مليئة بالخردة وبقايا الأدوات والمقاعد سميت مجازاً غرفة معلمات ؟
ماذا كان سيضير المسئولين أو حتى مدراء المدارس لو خصصوا غرفة بسيطة وبأقل الإمكانيات لحضانة أطفال المعلمات ، ونحن كأطفال لن نطالب بأسرة وأغطية وثيرة ودافئة تضاهي أحضان أمهاتنا ولن نشترط بأن تقوم برعايتنا "بيبي سيتر" متخصصة في علم نفس الأطفال ولن نحلم حتى بزجاجة حليب تعوض حضن معلمة وأم احتقن صدرها كلما أحست بأن طفلها المبعد عنها يصرخ ويتضور جوعاً.

ما ذنبي حين يتم إجباري على مسح أرجاء هذه الغرفة بيدي وركبتي ؟ وان يتم الاستعاضة عن المكنسة الكهربية بي لكي أشفط الدبابيس والأشياء الصغيرة الأخرى عن السجادة المثقلة بالغبار الذي أستنشقه وتمتلئ به رئتاي كل يوم ؟
من يمسح دمعة أمي التي تمتزج كل يوم مع دموع أخي الذي لا يكبرني بكثير حين تنتزعه بألم من حضنها لتبقيه في البيت بينما يصرخ المسكين مما يتصوره قسوة أم ولا يدري بأنها قسوة مجتمع أراد منها أن تتقاعس في حق أبناءها من أجل "تربية جيل" .
وأنا .. من يكفل حقي كطفل عمره عام واحد فقط .. يقول الدين بأن فطامي في عامين وأنا اضطررت إلى أن أفطم قبل العام وأن أتعاطى مع زجاجة لا تتوفر الظروف لأن تغسل وتغلى جيداً حتى.. وتقول القوانين ومنظمات الأمومة والطفولة وحقوق الإنسان واليونسكو وغيرها الكثير بأن لدي العشرات والعشرات من الحقوق التي لم أحظى يوماً بممارسة إحداها .
لكن الحق الوحيد الذي سأطالب به دائما وأبدا هو الحق في أن يتم تسكيني في الملاك الوظيفي وعلى أي مهنة يراها المسئولين تتناسب مع دوري في هذه المدرسة سواء كانت معلماً مواظبا وملتزما أو حارسا "يعس "منذ ساعات الصباح الباكر على أمن المدرسة أو حتى "عامل نظافة" ..
وفي النهاية لن يضيع حق ورائه مطالباً.[center]

نحن كأطفال لن نطالب بأسرة وأغطية وثيرة ودافئة تضاهي أحضان أمهاتنا ولن
نشترط بأن تقوم برعايتنا "بيبي سيتر" متخصصة في علم نفس الأطفال ولن نحلم
حتى بزجاجة حليب تعوض حضن معلمة وأم احتقن صدرها كلما أحست بأن طفلها
المبعد عنها يصرخ ويتضور جوعاً............... قطعة ولا اجمل , دقيقة جدا ومعبرة جدا لا املك الا ان اقول سلمت