[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]الناجي الحربي
خطرت لي ذات مرة فكرة زيارة اليابان .. نعم اليابان الآسرة .. كان ذلك زمن الحب اللذيذ .. عندما كنت أسافر بلا مشاغل أتركها خلفي .. حينما كنت بلا زوجة وبلا أطفال أو أي (شخشاب) يجعلني أسير ملتفتاً ورائي .. منتهى الحرية .. ومنتهى الرغبة في التحليق بعيدا عن روتين الحياة الذي كبلنا بالتزامات أبعدتنا عن عالم الرحلات ومعرفة أسرار البلدان في القارات التي نسمع عنها فقط ولا نراها .. وحرمنا من متعة الترحال .. وبهجة الفرجة والاختلاط .
كان هاجس السر العظيم لتفوق اليابان يسيطر بضراوة على عقل شاب مازال طالبا في المرحلة الجامعية .. بالطبع لم أتمكن من تحقيق حلم السفر إلى طوكيو .. وببساطة لأنني طالب وليس لدي ما يمكن أن يوفر تذكرة سفر ومصاريف إقامتي سوى منحة متواضعة آنذاك تجود بها الجامعة بين الحين والحين على طلبة القسم الداخلي لا تكفي لمصاريف صيف قريتي القابعة في أحضان الكساد والرتابة ..
فشلت كل محاولاتي اليائسة للفوز بمصدر تمويل للرحلة كأن اشترك في مسابقات ثقافية من باب لعل وعسى أتحصل على تذكرة أو مبلغ مالي يمكنني من تحقيق رغبتي .. و فيما كان هذا الحلم صعب المنال وبضربة حظ نادرة أوفدت في رحلة طلابية رفقة فريق رياضي إلى بلد أوروبي .. كان السفر عن طريق البحر .. ومن ميناء إلى ميناء .. ومن حانة إلى أخرى تعرفت على شباب من أقاليم يابانية مختلفة .. وكانت اللغة الإنجليزية التي يتحدثونها بطلاقة آنذاك تشكل عقبة كبيرة بالنسبة لي في التفاهم والتواصل معهم ربما لعقم مناهجنا أو لسؤ مدارسنا .. غير أنني وبجهد مضنٍ قرأت الأفكار وقبضت على السر الكبير الذي جعل اليابان تنهض من هزائمها .. وأدركت أن السبب وراء الإسراع في تحديث وتطور اليابان المذهل في عهد ( ميجي ) هو الرغبة الجامحة لليابانيين في جعل بلادهم أكثر غنىً وأكثر قوة .. واعتمادهم في تكريس هذا الهدف الاستراتيجي على العلوم التطبيقية و بالأخص علم الرياضيات .. وفي نفس الوقت تخليهم عن أسلوب الخطابة.. حيث ظهرت عندهم نداءات تطالب بنبذها .. وأقصد بالخطابة تلك التي ننتهجها نحن العرب الآن حتى أصبحنا من المتفوقين في التحدث لا غير دون منازع .. إذ كان اليابانيون يعتبرون الخطابة نوعاً من التضليل .. وأصبحوا ينظرون إلى كل رجل ياباني يستخدم التلاعب بالألفاظ ضالاً .. لإيمانهم بأن التقدم لن يأتي بالبراعة في الكلام .. وإنما بالعمل والإنتاج ترتقي الشعوب وتحقق أهدافها .. ومن هنا استطاع الكمبيوتر الياباني أن يحذف من قاموسه كلمة مستحيل.. وصارت بلاغة التقدم العلمي تتجسد بصورة حقيقية في بلادهم في أقل من نصف قرن بعد حادثة هيروشيما الكارثية.
منذ تلك الفترة التي تعرفت فيها على اليابانيين عن قرب أصبحت فكرة زيارة بلدهم غير ذات أهمية واكتفيت بالوقوف أمام كل منتج ياباني إلكتروني جديد إعجاباً بشعب عرف كيف ينهض من سقوطه أمام آلة الغرب المدمرة ..
أحد الشباب الذي يدعى ( يوكو) على ما أذكر كان يقول لي : ليس العيب أن تسقط ولكن العيب ألاّ تنهض من جديد .. ما ذكرني بقول قاسم أمين في إحدى مقالاته :”إن الوطنية الصحيحة لا تتكلم كثيراً .. ولا تعلن عن نفسها .. “.
بقلم: الناجي الحربي